مازال الحديث عن الاقتصاد المصري كالحديث عن أي شيء في هذا البلد العجيب ، لا علم ولافهم ولا تخطيط ولا تخصص ، بمعنى مهنة من لا مهنة له ، كل واحد فاشل في مهنته ، فيفتي ويتكلم في أي مهنة أخرى .
الاقتصاد المصري منهار .. مصر على وشك الإفلاس ، الاحتياطي النقدي في أدنى مستوياته ، العملة تتدهور ، عناوين نقرؤها في الصحف ، وتجد الخبر مجرداً من أي معطيات ، فضلاً عن أنه خال تماماً من أي فكرة للحل ، وإذا ذكر حل فإننا نجد حلولاً تقليدية أثبتت مع الأيام أنها لاتصلح للتطبيق مع الحالة المصرية ، ناهيك عن أن الذي يقدم حلاً هو في أحسن أحواله جاهل بأحوال الاقتصاد ومصر والمصريين.
أنا لن أقدم بالطبع حلولاً للاقتصاد المصري ، ولن أثبت مدى صحة أو اعتلال الاقتصاد في مصر ولكني سأبرهن أن منظومة التحليل والتخطيط والبناء واتخاذ القرار الاقتصادي في مصر ستظل عاجزة لفترة طويلة .
تخيلوا معي أننا وفي أوج حديثنا عن مصر جديدة مازلنا لانعلم على وجه التقريب كم أتلف مبارك ونظامه من مال المصريين على مدار سني حكمه .
تخيلوا أننا ومع ماسبق ذكره ودعواتنا لتطهير مصر من الفساد مازال هناك من يكون ثروات هائلة في أزمان قياسية ، وبالفساد ومازلنا ننادي بمحاربة الفساد .
كل هذه مشاكل على قدر أهميتها لاتساوي شيئاً إذا قارنناها بالمصيبة الأعظم ، والتي لن أمل من تكرارها ، التعداد السكاني .
هل تصدقون بلداً يرجوا نهضة تختلف فيه التقديرات بين خمسة وسبعين مليون وخمسة وتسعين مليون نسمة، لليوم لا نعرف تعداد الشعب المصري ، وبالتالي لانعرف نسبة الذكور إلى الإناث ، ونسبة الأعمار لبعضها ، ونسبة المسلمين للمسيحين ، ونسبة وسائل النقل لعدد السكان ، ونسبة الكادر الطبي والكادر التعليمي ، وبالتالي لانعلم عدد المستشفيات والمدارس وتصنيف كل منها ، لا يوجد إحصاء بعدد القرى ، أو إحصاء بالملكيات الزراعية ، ولا توزيعها الجغرافي ، ولا نعلم شيئاً عن عدد مصانعنا ، ولا منتجاتها ولا العاملين بها .
نحن لا نعلم شيئاً عن المواليد غير المسجلين ، وأطفال الشوارع ، وكيف يعيشون ، وكيف يتناسلون .
لاتوجد لدينا خرائط لتوزيع الأمراض ، أو خرائط زراعية ، أو خرائط سكانية .
فضلاً عن أن أي نوع من أنواع التخطيط الفني المتخصص لأي مجال بعينه يصبح ضرباً من الوهم و الخيال ، فإن أي حديث في الاقتصاد يصبح هو الوهم بعينه .
الحديث عن انخفاض التصنيف الإتماني إلى B- يدعوني للسؤال .
كيف تعرف المؤسسات الأجنبية عنا مالا نعرفه نحن عن أنفسنا ؟
هذه المؤسسات عندما تصنف الدول ، فإن لديها معايير لقياس المخاطر لا تحيد عنها ، ولكنها عندما تقيس فإنها تأخذ كثيراً من معطياتها من تقارير الدولة المستهدف تصنيفها ، وفي حالتنا المصرية ، فإن الحكومة من المستحيل أن تلم بالاقتصاد المصري كاملاً ، وبالتالي فإن المعطيات تتحدث عن إقتصاد واحد فقط وهو الاقتصاد الحكومي ، وإذا كان هذا تصنيفه B – فأؤكد لكم أننا على الأقل بخير.
لأن في ظل ما نراه من حديث سوداوي عن اقتصاد مصر وقربها من الإفلاس فمعنى ذلك أننا في إحدى درجات C المتأخرة ، وهذا بعيد جداً طبقا للتقارير.
دعوني أحدثكم عن الاقتصاد كما أراه .
الاقتصاد الحكومي وهذا لن أخوض فيه كثيراً لأن معطياته غير مبنية على أي أسس يمكن الاعتماد عليها بالمرة ، ومازال نهباً لأساليب إنتهى العمل بمثلها في أغلب دول العالم ، وبالتالي فالخوض فيه وتحليله كالخوض في وحل مليء بالجيف .
الاقتصاد الموازي وينقسم إلى نوعين رئيسيين
الاقتصاد الموازي الإيجابي : وهو اقتصاد غير مرتبط بسجلات أو دفاتر محاسبية وبطبيعة الحال فإنه غير مرتبط بالمنظومة الضريبية وغير مشمول بأي مظلة تأمينية ، ومثال ذلك من بين أمثلة أخرى الباعة الجائلين ، الذين تحدثت عنهم في مقال سابق وقلت بأنهم ثروة قومية ، هذا الاقتصاد غير منظور للدولة ، وإيجابيته هنا لاتعني من وجهة النظر الحكومية ، وإنما من وجهة نظر الاقتصاد ، فهذا النوع الذي انفصل تماماً عن الدولة منذ أمد بعيد وأصبح هو الدائرة المغلقة – في أغلب نقاطها – التي توفر النقد لقطاعات كيبرة جداً من الشعب ، وهذه الدائرة هي التي وفرت الحماية للاقتصاد المصري من الانهيار ، ففي الوقت الذي كانت تتعرض مصر للمؤامرات الداخلية والخارجية لتدمير العملة ، ظلت هذه الدائرة المنفصلة – بما توفره للمواطن البسيط من سلع وخدمات بأسعار تتناسب مع دخله – أداة مقاومة صلبه أمام محاولات كسر العملة المصرية ، وللعلم فإن هذا الاقتصاد يتعامل داخليا بأسعار للعملة غير تلك التي يتعامل بها المصرف المركزي .
كذلك فإن هذا السوق الموازي كان ومازال سبباً في بقاء نسبة البطالة ضمن حدودها المعقولة ، وبالمناسبة فنسبة البطالة المعلنة غير حقيقية ، ففضلاً عن استحالة حسابها في ظل غياب إحصاء دقيق للشعب ، فإن أحد أسباب وصف واضعيها بالجهل أن أغلب العاملين في هذا الاقتصاد الموازي محسوبين ضمن نسبة البطالة .
الاقتصاد الموازي السلبي: وهو اقتصاد الفساد ابتداء من التهريب وتجارة المخدرات والفساد الإداري وتمويل عمليات الإجرام وحماية مناطق النفوذ وحماية خطوط التهريب .
ومصيبة هذا الاقتصاد أنه دائرة مفتوحة على الاقتصاد الحكومي والاقتصاد الموازي الإيجابي ، تؤثر فيهما سلباً وتستنزف الكثير من مواردهما التي هي في النهاية جزء من الدخل القومي للمواطن المصري ، وبالتالي فإن أي حديث عن مؤشرات سوق أو سعر مستهلك أو ناتج قومي أو ميزان مدفوعات أو ميزان تجاري هي محض افتراءات ، يقصد بها تسديد خانات غير حقيقية في موازنة الدولة .
من المشهد السابق نجد أننا أمام كم من الهراءات ، التي هي أيضاً تستنزف من حصيلة العملة التي في يد المواطن ، والتي تقاس كل معطيات التقارير على أنها تصل إليه ، وحقيقة الأمر أنه لا يصل إليه إلا الفتات ، وبالتالي فإن المواطن دائماً في الاقتصاد الوطني مدين .
ليس مديناً لغيره دينا معلوماً ، ولكنه يولد مديناً بحصة لم ولن تصل إليه في حقيقة الأمر إلا أنه على الورق استلم مايفوقها أضعاف في شكل دعم ، وفي شكل مساهمته في قيمة التضخم الحاصل ، هذه هي الحقيقة .
الدعم والتضخم وهما حجة البليد في الاقتصاد المصري ، هذا البليد الذ لايستطيع أن يفرق بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية والسياسة المالية ، وتأثيرات كل منهم على الأخريين ، هذا البليد كلما عجز عن الرد على سؤال ألقاه في سلة مهملات التضخم – الذي هو غير حقيقي بالتبعية – ثم يطالب بزيادة الضرائب وخفض الفوائد لتغطية فاتورة الدعم .
هذا الفشل الحاصل في حاجة لوقفة ، وقفة يتم معها طرد كل الخبراء الاقتصاديين خارج غرفة النقاش ، واستبدال الأوراق والأقلام ، والإتيان بأشخاص جدد ، غير مسيسين ولا متحزبين ، أشخاص لا يحملون لقب خبير ولا يسعون للحصول على لقب سعادة أو معالي ، هؤلاء الأشخاص يأتون بأدوات جديدة وخطاب جديد ، وفهم غير مبني على ماسبق .
هؤلاء الأشخاص لابد أن يضعوا أرصدة إفتتاحية جديدة للحوار الاقتصادي المصري ، قادرين بعيداً عن ترهات الإعلام وتوابعه أن يضعوا خططاً عاجلة وخططاً طويلة الأمد ومابينهما .
أما أن يظل الاقتصاد مهنة من لامهنة له ، كما الدين وكما السياسة والزراعة والإعلام وغيرها من مجالات التخصص فإن مصر ستظل لفترة طويلة خارج نطاق التغطية ، تعيش بوجه وتفصح عن آخر ويتم تقييمها في الخارج بناء على معطيات وجه ثالث .
Reblogged this on Usama kady.
إعجابإعجاب